فصل: تفسير الآيات (67- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (67- 74):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)}
استبعد الكفار أن تبعث الأجساد والرمم من القبور واستملحوا ذلك فذكر ذلك عنهم على جهة الرد عليهم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير أ. ذا. أ. ن مهموز، غير أن أبا عمرو يمد وابن كثير لا يمد، وقرأ عاصم وحمزة {أإذا أإنا} بهمزتين فيهما، وقرأ نافع {إذا} مكسورة الألف أنا. ممدوة الألف، وقرأ الباقون {آيذا} ممدودة {إننا} بنونين وكسر الألف، ثم ذكر الكفار أن هذه المقالة مما قد وعد بها قبل وردوا على جميع الأنبياء وجعلوها من الأساطير، ثم وعظهم تعالى بحال من كذب من الأمم فأمر نبيه أن يأمرهم بالسير والتطلع على حال مجرمي الأمم وبالحذر أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، وهذا التحذير يقتضيه المعنى، ثم سلى نبيه عليه السلام عنهم، وهذا بحسب ما كان عنده من الحرص عليهم الاهتمام بأمرهم، وقرأ ابن كثير {في ضِيق} بكسر الضاد ورويت عن نافع، وقرأ الباقون بفتحها و{والضِّيق} والضَّيق مصدران بمعنى واحد، وكره أبو علي أن يكون ضيق كهين ولين مسهلة من ضيق قال: لأن ذلك يقتضي أن تقام الصفة مقام الموصوف، ثم ذكر استعجال قريش بأمر الساعة والعذاب بقولهم {متى هذا الوعد}، على معنى التعجيز للواعد به، فأمر تعالى نبيه يتوعدهم بأنه عسى أن يأذن الله في أن يقرب منهم بعض ما استعجلوه من الساعة والعذاب.
و{ردف} معناه قرب وأزف قاله ابن عباس وغيره، ولكنها عبارة عما يجيء بعد الشيء قريباً منه ولكونه بمعنى هذه الأفعال الواقعة تعدى بحرف وإلا فبابه أن يتجاوز بنفسه، وقرأ الجمهور بكسر الدال، وقرأ الأعرج {ردَف} بفتح الدال، وقرأ جمهور الناس، {تُكن} من أكن وقرأ ابن محيصن وابن السميفع {تكن} من كن وهما بمعنى.

.تفسير الآيات (75- 82):

{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)}
التاء في {غائبة} للمبالغة، أي ما من شيء في غائبة الغيب والخفاء {إلا في كتاب} عند الله عز وجل وفي مكنون علمه، ثم نبه تعالى على {إن هذا القرآن} أخبر {بني إسرائيل} بأكثر الأشياء التي كان بينهم الخلاف في صفتها فجاءت في القرآن على وجهها، ثم وصفه تعالى بأنه هدى ورحمة للمؤمنين، كما أنه عمى على الكافرين المحتوم عليهم ومعنى ذلك أن كفرهم استتب مع قيام الحجة ووضوح الطريق فكثر عماهم بهذه الجهة ثم أخبر أن ذلك كله بقضاء من الله وحكم قضاه فيهم وبينهم، ثم أمره بالتوكل عليه والثقة بالله وبأنه {على الحق} أي إنك الجدير بالنصرة والظهور، ثم سلاه عنهم وشبههم ب {الموتى} من حيث الفائدة في القول لهؤلاء وهؤلاء معدومة فشبههم مرة ب {الموتى} ومرة ب {الصم}، قال العلماء: الميت من الأحياء هو الذي يلقى الله بكفره.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: واحتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية، ونظرت هي في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم» فيشبه أن قصة بدر هي خرق عادة لمحمد عليه السلام في أن رد الله إليهم إدراكاً سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم.
وقد عورضت هذه الآية بالسلام على القبور وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات قالوا: فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله غير معارض للآية لأن السلام على القبور إنما هو عبادة وعند الله الثواب عليها وهو تذكير للنفس بحالة الموت وبحالة الموتى في حياتهم، وإن جوزنا مع هذا أن الأرواح في وقت على القبور فإن سمع فليس الروح بميت وإنما المراد بقوله: {إنك لا تسمع الموتى} الأشخاص الموجودة مفارقة لأرواحها، وفيها تقول خرفت العادة لمحمد عليه السلام في أهل القليب وذلك كنحو قوله صلى الله عليه وسلم في الموتى «إذا دخل عليهم الملكان إنهم يسمعون خفق النعال»، وقرأ ابن كثير {ولا يسمع} بالياء من تحت الصمُّ رفعاً ومثله في الروم، وقرأ الباقون {تُسمع} بالتاء الصمَّ نصباً، وقرأ جمهور القراء {بهادي العمي} بالإضافة، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة {بهادٍ العميَ} بتنوين الدال ونصب العميَ، وقرأ حمزة وحده {وما أنت تهدي العمي} بفعل مستقبل وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن يعمر، وفي مصحف عبد الله {وما أن تهدي العمي}، ومعنى قوله: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض}، إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله تعالى في ذلك أي حتمه عليهم، وقضاؤه وهذا بمنزلة قوله تعالى: {حقت كلمة العذاب} [الزمر: 71] فمعنى الآية وإذا إراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض، وروي أن ذلك حين ينقطع الخير ولا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يبقى منيب ولا تائب، كما أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ووقع، عبارة عن الثبوت واللزوم وفي الحديث أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الأشراط وإن لم تعين الأولى وكذلك الدجال.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الأحادث والروايات أن الشمس آخرها لأن التوبة تنقطع معها وتعطي الحال أن الإيمان لا يبقى إلا في أفراد وعليهم تهب الريح التي لا تبقي إيماناً وحينئذ ينفخ في الصور، ونحن نروي أن الدابة تسم قوماً بالإيمان وتجد أن عيسى ابن مريم يعدل بعد الدجال ويؤمن الناس به وهذه الدابة روي أنها تخرج من جبل الصفا بمكة قاله عبد الله بن عمر، وقال عبد الله بن عمرو نحوه، وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت، وروي عن قتادة أنها تخرج تهامة، وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام، وروى بعضهم عن حذيفة بن اليمان أنها تخرج ثلاث خرجات، وروي أنها دابة مزغبة شعراء، وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين وهي في السحاب وقوائمها في الأرض، وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان، وذكر الثعلبي عن أبي الزبير نحوه، وروي أنها دابة مبثوث نوعها في الأرض فهي تخرج في كل بلد وفي كل قوم، فعلى هذا التأويل {دابة} إنما هو اسم جنس، وحكى النقاش عن ابن عباس أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة، وقرأ جمهور الناس {تكلمهم} من الكلام، وفي مصحف أبيّ {تنبئهم}، وفسرها عكرمة بتسمهم قال قتادة: وفي بعض القراءة تحدثهم.
وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جريج {تكلِمهم} بكسر اللام من الكلم وهو الجرح، قال أبو الفتح: وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري، وقال ابن عباس: كلا والله تفعل تكلمهم وتكلمهم.
قال القاضي أبو محمد: وروي في هذا أنها تمر على الناس فتسم الكافر في جبهته وتزجره وتشتمه وربما حطمته وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه ويعرف بعد ذلك الإيمان والكفر من أثرها، وقرأ جمهور القراء {إن الناس} بكسر إن وقرأ حمزة والكسائي وعاصم {أن} بفتح الألف، وفي قراءة عبد الله {تكلمهم بأن} وهذا تصديق للفتح، وعلى هذه القراءة يكون قوله: {إن الناس} إلى آخر القراءة من تمام كلام الدابة، وروي ذلك عن ابن عباس ويحتمل أن يكون ذلك من كلام الله عز وجل.

.تفسير الآيات (83- 87):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)}
المعنى واذكر يوم، وهذا تذكير بيوم القيامة و{نحشر} نجمع، و{من كل أمة} يريد من كل قرن من الناس متقدم، لأن كل عصر لم يخل من كفرة بالله من لدن تفرق بني آدم، والفوج الجماعة الكثيرة من الناس والمعنى ممن حاله أنه مكذب بآياتنا، و{يوزعون} معناه يكفون في السوق أي يحبس أولهم على آخرهم، قال قتادة وغيره: ومنه وازع الجيش، وفيه يقول عبد الشارق بن عبد العزى: [الوافر]
فجاؤوا عارضاً برداً وجئنا ** كمثل السيل نركب وازعينا

ثم أخبر تعالى عن توقيفه الكفرة يوم القيامة وسؤالهم على جهة التوبيخ {أكذبتم} الآية، ثم قال: {أماذا كنتم تعملون} على معنى استيفاء الحجج، أي إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها، وقرأ أبو حيوة {أماذا كنتم تعملون} بتخفيف الميم، ثم أخبر عن وقوع القول عليه أن نفوذ العذاب وحتم القضاء وأنهم {لا ينطقون} بحجة لأنها ليست لهم وهذا في موطن من مواطن القيامة وفي فريق من الناس لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن.
ثم ذكر تعالى الآية في {الليل} وكونه وقت سكون واتداع لجميع الحيوان والمهم من ذلك بنو آدم، وكون {النهار مبصراً} أي ذا إبصار، وهذا كما تقول ليل قائم ونهار صائم، ومعنى ذلك يقام فيه ويصام، فكذلك هذا، معناه يبصر فيه فهو لذلك ذو إبصار، ثم تجوز بأن قيل {مبصراً} فهو على النسب كعيشة راضية، والآيات في ذلك هي للمؤمنين والكافرين، هي آية لجميعهم في نفسها، لكن من حيث الانتفاع بها والنظر النافع إنما هو للمؤمنين فلذلك خصوا بالذكر، ثم ذكر تعالى يوم {ينفخ في الصور}، وهو القرن في قول جمهور الأمة، وهو مقتضى الأحاديث، وقال مجاهد: هو كهيئة البوق، وقالت فرقة: الصور جمع صورة كتمرة وتمر وجمرة وجمر والأول أشهر، وفي الأحاديث المتداولة أن إسرافيل عليه السلام هو صاحب الصور وأنه قد جثا على ركبته الواحدة وأقام الأخرى وأمال خده والتقم القرن ينتظر متى يؤذن له في النفخ، وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي نفخة الفزع، وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور، وقالت فرقة إنما هي نفختان كأنهم جعلوا الفزع والصعق في نفخة واحدة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68] وقالوا: أخرى لا يقال إلا في الثانية.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أصح، و{أخرى} [الزمر: 68] يقال في الثالثة ومنه قول ربيعة بن مكدم: [الكامل]
ولقد شفعتهما بآخر ثالث

ومنه قوله تعالى: {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20].
وأما قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
جعلت لها عودين من ** نشم وآخر من ثمامه

فيحتمل أن يريد به ثانياً وثالثاً فلا حجة فيه. وقال تعالى: {ففزع} وهو أمر لم يقع بعد إشعاراً بصحة وقوعه وهذا معنى وضع الماضي موضع المستقبل، وقوله تعالى: {إلا من شاء الله} استثناء فيمن قضى الله تعالى من ملائكته وأنبيائه وشهداء عبيده أن لا ينالهم فزع النفخ في الصور، قال أبو هريرة: هي في الشهداء، وذكر الرماني أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مقاتل: هي في جبريل عليه السلام وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريون أن لا ينالهم هذا.
قال القاضي أبو محمد: على أن هذا في وقت ترقب وذلك في وقت أمن إذ هو إطباق جهنم على أهلها، وقرأ جمهور القراء {وكل آتوه} على وزن فاعلوه، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم {أتوه} على صيغة الفعل الماضي وهي قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة، وقرأ قتادة {أتاه} على الإفراد إتباعاً للفظ كل وإلى هذه القراءة أشار الزجاج ولم يذكرها، والداخر المتذلل الخاضع، قال ابن زيد وابن عباس: الداخر الصاغر، وقرأ الحسن {دخرين} بغير ألف، وتظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذ الآية إنما أريد به الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم أهل للفزع لأنهم بشر لكن فضلوا بالأمن من ذلك اليوم.

.تفسير الآيات (88- 93):

{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}
هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور، والرؤية هي بالعين وهذه الحال ل {الجبال} هي في أول الأمر تسير وتموج وأمر الله تعالى ينسفها ويفتها خلال ذلك فتصير كالعهن، ثم تصير في آخر الأمد هباء منبثاً، والجمود، التضام والتلزز في الجوهر، قال ابن عباس {جامدة} قائمة، ونظيره قول الشاعر [النابغة]: [الطويل]
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ** وقوف لحاج والركاب تهملج

و{صنع الله} مصدر معرف والعامل فيه فعل مضمر من لفظه، وقيل هو نصب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله، والإتقان الإحسان في المعمولات وأن تكون حساناً وثيقة القوة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {يفعلون} بالياء وقرأ الباقون {تفعلون} بالتاء على الخطاب، والحسنة الإيمان، وقال ابن عباس والنخعي وقتادة: هي لا إله إلا الله، وروي عن علي بن الحسين أنه قال: كنت في بعض خلواتي فرفعت صوتي بـ لا إله إلا الله فسمعت قائلاً يقول إنها الكلمة التي قال الله فيها {من جاء بالحسنة فله خير منها} وقوله: {خير منها} يحتمل أن يكون للتفضيل، ويكون في قوله: {منها} حذف مضاف تقديره خير من قدرها واستحقاقها، بمعنى أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته، قال ابن زيد: يعطى بالواحدة عشراً والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل، ويحتمل أن يكون خبر ليس للتفضيل بل اسم للثواب والنعمة، ويكون قوله تعالى: {منها} لابتداء الغاية، أي هذا الخير الذي يكون له هو من حسنته وبسببها، وهذا قول الحسن وابن جريج، وقال عكرمة: ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله، وإنما له الخير منها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {من فزع} بالإضافة، ثم اختلفوا في فتح الميم وكسرها من {يومئذ} فقرأ أكثرهم بفتح الميم على بناء الظرف لما أضيف إلى غير متمكن، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع بكسر الميم على إعمال الإضافة، وذلك أن الظروف إذا أضيفت إلى غير متمكن جاز بناؤها وإعمال الإضافة فيها.
ومن ذلك قول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع

فإنه يروى على حين بفتح النون وعلى حينِ بكسرها، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {من فزعٍ} بالتنوين وترك الإضافة ولا يجوز مع هذه القراءة إلا فتح الميم من {يومَئذ}، والسيئة التي هي في هذه الآية هي الكفر والمعاصي فيمن ختم الله تعالى عليه من أهل المشيئة بدخول النار، و{كبت} معناه جعلت تلي النار، وجاء هذا كباً من حيث خلقتها في الدنيا تعطي ارتفاعها، وإذا كبت الوجوه فسائر البدن أدخل في النار إذ الوجه موضع الشرف والحواس، وقوله: {هل تجزون} بمعنى يقال لهم ذلك وهذا على جهة التوبيخ، وقوله: {إنما أمرت} بمعنى قل يا محمد لقومك {إنما أمرت}، و{البلدة} المشار إليها مكة، وقرأ جمهور الناس{الذي حرمها}، وقرأ ابن عباس وابن مسعود {التي حرمها} وأضاف في هذه الآية التحريم إلى الله تعالى من حيث ذلك بقضائه وسابق علمه وأضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم في قوله «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة»، من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته فليس بين الآية والحديث تعارض، وفي قوله: {حرمها} تعديد نعمته على قريش في رفع الله تعالى عن بلدهم الغارات والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب، وقوله: {وله كل شيء} معناه بالملك والعبودية، وقرأ جمهور الناس {أن أتلو} عطفاً على قوله: {أن أكون} وقرأ ابن مسعود {وأن اتل القرآن} بمعنى وقيل لي اتل القرآن و{اتل} معناه تابع بقراءتك بين آياته واسرده وتلاوة القرآن سبب الاهتداء إلى خير كثير، وقوله: {فمن اهتدى} معناه من تكسب الهدى والإيمان ونظر نظراً ينجيه ف {لنفسه} سعيه.
قال القاضي أبو محمد: فنسبة الهدى والضلال إلى البشر في هذه الآية إنما هي بالتكسب والحرص والحال التي يقع عليها الثواب والعقاب والكل أيضاً من الله تعالى بالاختراع، وقوله: {سيريكم آياته} توعد بعذاب الدنيا كبدر، والفتح، ونحوه وبعذاب الآخرة، وقرأ جمهور القراء {عما يعملون}، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم عما {تعملون} بالتاء من فوق على مخاطبتهم.